القائمة الرئيسية

الصفحات

تقليد الأعلم






 تقليد الأعلم

لدى المذهب الشيعي الإمامي الإثني عشري ما يعرف بالتقليد. وهو اتباع المكلف لأحد المجتهدين في جميع عباداته ومعاملاته وسائر أفعاله وتروكه. فالمعروف لديهم أن كل من وصل إلى سن التكليف، فإن عليه إما العمل بالاحتياط، أو تقليد أحد المجتهدين. وبما أن العمل بالاحتياط لا يتسنى إلا للقلة ممن لديه خبرة واسعة بالمسائل الفقهية وآراء العلماء فيها، لكي يحتاط فيما بينها بما يفرغ ذمته. وهو عمل شاق لا يتيسر للجميع. فيكون المتعين أن العمل بالتقليد هو مسؤولية أغلب المكلفين. على أن العمل بالاحتياط قد يكون متعذراً في بعض المسائل. ومن هنا أفتى بعضهم بعدم جواز العمل بالاحتياط في كل المسائل.

والمقصود بالمكلف هنا، هو البالغ الذي يجب عليه العمل بالأحكام الشرعية المعروفة. والمجتهد هو من له القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

 

من هو الأعلم؟

يُعرَّف الأعلم عادة بأنه المجتهد (الأقدر على استنباط الأحكام. وذلك بأن يكون أكثر إحاطة بالمدارك، وبتطبيقاتها من غيره). ومن يحدد ذلك هم أهل الخبرة في هذا المجال؟ والمطلعون على مستويات المجتهدين العلمية. وذلك من خلال مناقشتهم أو الاطلاع على بحوثهم الاستدلالية، من خلال حضور دروسهم، أو قراءة كتبهم وما شابه ذلك.

وقد ادعى البعض أن وجوب تقليد الأعلم من المسلمات لدى الشيعة. بل ادعى بعضهم أنه محل إجماع بينهم. ولكن هذا غير صحيح. فلا إجماع في البين. لأن عدداً من الفقهاء يجيزون تقليد غير الأعلم. ولو سلمنا الاتفاق فإنه ليس الإجماع الكاشف عن قول الإمام(ع)، الذي يشترط فيه أن يؤخذ يداً بيد وطبقة بعد طبقة حتى يصل إلى زمن الأئمة(ع). فلا حجية في الإجماع المنقول، الذي قد يكون مرتكزاً على بعض الوجوه التي استدل بها الفقهاء.

 

دليل القول بوجوب تقليد الأعلم

إن عمدة القول بوجوب تقليد الأعلم هو سيرة العقلاء التي استندوا إليها. وحاصلها بأن الأمر كذلك في أي مجال أو اختصاص. فقد اتفق العقلاء على الرجوع إلى الأعلم في اختصاصه. وأوضح مثال على ذلك هو اختيار الطبيب الأعلم والرجوع إليه. وهذه السيرة العقلائية كانت في زمن الأئمة(ع). وقد أمضوها. وهذا الإمضاء من قبلهم يعد دليلاً على صحتها. ولم يصدر منهم ردع عن هذه السيرة.

وإذا كان الأمر كذلك في مختلف مناحي الحياة. يكون هو المتعين فيما يتعلق بأمور الدين وبراءة الذمة أمام الله تعالى.

وهذا مردود بوجهين:

الأول: أن سيرة العقلاء أمامكم. فهل نجد وفقاً لذلك أن الذي يرجع إليه الناس هو طبيب واحد فيما يتعلق بالمرض وفق اختصاص ما؟ بحيث يعتبرون من يراجع غيره مذموم عند العقلاء! ولو كان الأمر كذلك لتوقف باقي الأطباء عن العمل، ولاعتبر الناس ممارستهم للطب والكشف على الناس أمراً معيباً! فهل وجدنا الأمر كذلك في أي جيل من الأجيال؟ ونفس الأمر يسري إلى باقي الاختصاصات كالهندسة والنجارة والبناء وغيرها.

إننا نجد وبكل وضوح وجود عدد هائل يعملون في نفس الاختصاص، وفي وقت واحد، أو مكان واحد. من دون حرج أو ذم من قبل العقلاء.

فما ادعي من السيرة العقلائية على القول بوجوب تقليد الأعلم، أمر قابل للمناقشة، بل هو مردود، لأن السيرة العقلائية على خلاف ما يدعون.

الثاني: على فرض وجود هكذا إمضاء من قبل الأئمة(ع)، وأن السيرة وفقاً لما يدَّعون فعلاً. فمن قال بأن هذه السيرة تعني الإلزام والوجوب. فلربما تعني على فرض وجودها الأرجحية والأفضلية ليس إلا. فتكون النتيجة هي القول بالاستحباب والترجيح، وليس القول بالوجوب. أو أنها دالة على الإباحة ليس إلا. مع الالتفات إلى أن السيرة دليل لبي يؤخذ منه بالقدر المتيقن، ويترك الأمر المشكوك فيه وهو الوجوب والإلزام. وكما نعلم بأن الدليل اللبي لا لسان له ليفهم منه سعة دائرة مدلوله أو ضيقها. وليس هو كالدليل اللفظي الذي يمكننا أن نستكشف منه الإطلاق والتقييد، أو العموم والخصوص. وغير ذلك من حيثيات مداليل الألفاظ. يكفي أن نقول بأن مؤونة القول بالوجوب تحتاج إلى دليل، وهو غير متوفر، فنجري أصالة البراءة.

لأن السيرة لمن تأمل جارية في وجود عدد من الناس يعملون في نفس الاختصاص، ويرجع إليهم الناس من دون ذم. يكفي في الطبيب أن يشخص المرض ويعطي العلاج حتى لو كان غيره أكثر خبرة أو عمقاً في اختصاصه. وفي محل الحديث يكفي في الفقيه أن تكون له القدرة على استنباط الحكم الشرعي من أدلته التفصيلية. وتكون له القدرة على تطبيق القواعد والكبريات على صغرياتها بملكة تسمى الاجتهاد.

ثم من قال بأن رأي الأعلم، هو الأقرب للواقع؟ لتكون له الأرجحية دائماً. فلربما تكون فتوى غير الأعلم هي الأقرب للواقع، أو قد تكون موافقة للاحتياط، وفتوى الأعلم على خلاف ذلك. ولا شك بأن الفتوى الموافقة للاحتياط هي الأولى بالاتباع كما لا يخفى.

 

أعلم بماذا؟

من يقول بوجوب تقليد الأعلم، عليه أن يحدد ما يجب أن يكون عليه الفقيه أكثر من غيره علماً وقدرة! فإنهم وإن كانوا يتفقون بأن الأعلم هو الأقدر على استنباط الأحكام، وأنه الأكثر إحاطة بالمدارك، وأنه صاحب السليقة الأعمق في تطبيق الكبريات على الصغريات. أو ما يشبه هذه الكلمات. ولكنهم يختلفون اختلافاً كبيراً فيما ينتج للفقيه هذه القدرة والملكة. فهل ينطبق هذا الأمر على الأعلم بالفقه، أم الأصول، أم الحديث والرجال، أم كثرة الاطلاع على الروايات. أم أن الخبرة الاجتماعية والقيادة وما شابه، لها دور في ذلك.

وما هو الدليل على كل واحد من هذه الاحتمالات؟! ولربما يكون الكثير منها عبارة عن استحسان ليس إلا. أو كما يقال بأنه ينطلق بعضها ممن يكون فيها هو الأكثر اطلاعاً، لا أنها تستند إلى الدليل.

 

من يحدد الأعلم؟

من الواضح أن من يحدد الأعلم هم أهل الخبرة في هذا المجال. ممن له اطلاع على مستوى الفقيه العلمي، من خلال مناقشته، أو حضور درسه، أو قراءة كتبه الاستدلالية مثلاً. ولكننا نعلم أيضاً أن المزاج الشخصي، وعدم الموضوعية، والعاطفة الشخصية، تلعب دوراً كبيراً بين الكثير من أهل الخبرة. فلا توجد معايير علمية، أو فريق محايد يتوفر على الرصانة العلمية نحتكم لديه لإعطاء النتائج الحقيقية في التقييم. وهذا ما نراه عملياً من وجود عدد كبير من الفقهاء في كل جيل، ينقسم أهل الخبرة فيما بينهم انقاساماً كبيراً في تحديد الأعلم. وكل واحد من الفقهاء له جماعة يشهدون له بالأعلمية. ومعظم هذه الشهادات لا تستند إلى الواقع، وإنما تتدخل فيها دوافع غير علمية!

وعلى ضوء ما تقدم يكون الأمر متعسراً جداً لدى من يريد التقليد، وكيف له أن يحدد من هو الأعلم. ووجود العسر والحرج كافٍ بأن يجعل المكلفين غير ملزمين بهذا الفحص.

مضافاً إلى أننا وجدنا الكثير من الفقهاء تكون له الشهرة، ويقلده الناس، ويوجد في زمانه من هو أعلم منه. وعلى ذلك أمثلة كثيرة يعلمها ذوو الاختصاص.

كان دليل السيرة العقلائية هو أقوى ما قدموه. وهو كما ترى. ولا نريد الآن الدخول في بعض الأدلة الأخرى والتي هي غاية في الوهن. كمقبولة عمر بن حنظلة (قال: سألت أبا عبدالله(ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث فتحاكما، إلى أن قال: فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث).

فإنها مناقشة سنداً بعمر بن حنظلة نفسه لأنه لم يوثق، ودلالة لأنها تخص القضاء ولا تخص الفتوى. ومثل ذلك ينطبق على ما يشبهها من الروايات التي قد يستدل بها. أمثال ما جاء في عهد مالك الأشتر: (اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك). أو ما ورد في البحار وغيره: (إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة) فإنها روايات أجنبية عن محل الكلام. أو أنها مرسلة لا تصلح للاستدلال بها.

 

 

الدليل على عدم وجوب تقليد الأعلم

بعد كل ما تقدم، نجد أن ما يدعى من الدليل على وجوب تقليد الأعلم، قابل للمناقشة. وأنه لا يرقى إلى معارضة الأدلة التي سوف نذكرها على عدم الوجوب.

الدليل الأول: قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). التوبة 122.

وذلك بتقريبين:

أحدهما: هو الإطلاق في الآية. فإن الإنذار المستلزم للحجية فيه إطلاق، ولم يشترط أن يكون الفقيه هو الأعلم.

ثانيهما: أن طائفة تعني جماعة، مما يدل على أن عدداً من الفقهاء يمكن أن يمارسوا الفُتيا في وقت واحد، بل في مكان واحد كما يظهر. ويكونون حجة على الناس، لا أن يمارس هذا الحق فقيه واحد حصراً، فتأمل.

الدليل الثاني: هو إطلاق ما ورد من الأخبار التي تأمر الناس بالرجوع إلى يونس بن عبد الرحمن وزكريا بن آدم ومحمد بن مسلم وغيرهم. مع العلم بأن هؤلاء لا يحتمل تساويهم بالفضل والفقاهة. ولكننا لم نجد ولا واحدة من هذه الروايات أشارت تصريحاً أو تلميحاً لإرجاع الناس إلى الأعلم منهم. بل هي مطلقة في الرجوع إليهم من دون التمييز في ذلك. مع الإغماض الآن عن الدور الذي كان يقوم به هؤلاء، هل هو الفُتيا، أم نقل كلام الإمام فقط. ولا شك أنهم كانوا فقهاء، ويجلسون للإفتاء، ويحثهم أهل البيت(ع) على ممارسة هذه المسؤولية. ويستخدمون بعض القواعد كحجية الظهور والاستصحاب وغيرها مما تعارف عليه في التفاهم بين الناس، وكذلك في فهم مراد الأئمة(ع). ويطبقونها على مختلف المسائل والموارد.

مضافاً إلى أن هذه الروايات قد اعتبرت الرجوع إلى هؤلاء وأخذ الأحكام منهم، حجة حتى مع وجود الأعلم وهو الإمام نفسه. إلا أن يقال بأن دورهم يقتصر على نقل كلام الإمام، ولا يأتون بما يخالفه، مع عدم وجود البعد الزماني بينهم وبين الأئمة(ع) كما عليه حال الفقهاء في زماننا المتأخر. ومع ذلك فإن هذا يرد عليه بأنهم قد يختلفون فيما بينهم في هذا الفهم، وقد تتباين مستوياتهم العلمية. ومع ذلك لم نجد في ألسنة هذه الروايات ما يشير إلى اشتراط الأعلمية فيما بينهم كما أسلفنا.

الدليل الثالث: مضافاً إلى ما أشرنا له من أن السيرة العقلائية في واقعها لا تمنع من الرجوع إلى صاحب الاختصاص الخبير بعمله، حتى مع وجود الأفضل. فإن سيرة المتشرعة أيضاً على ذلك. فإنهم يرجعون في مختلف المسائل محل الابتلاء، إلى العالم بها من دون تحديد الأعلم. ونستطيع القول بأن هذه السيرة ممتدة إلى زمن الأئمة(ع). ولم يصدر منهم الردع عنها. فتكون هذه السيرة ممضاة من قبلهم. وهي كافية في إثبات المدعى.

يكفي أن عدم ورود دليل على وجوب تقليد الأعلم، بحد ذاته كافٍ بأن يكون تقليد أي فقيه جامع للشرائط حجة ومبرئاً للذمة، ومشمولاً لأدلة وجوب التقليد أو جوازه، ولا نريد الآن الدخول في الفرق بينهما، أو مناقشة أدلة مطلوبية التقليد الأعم من الوجوب أو الجواز. أو عدم مطلوبيته أصلاً.

 

تقليد الأعلم من زاوية اجتماعية

لا يخفى بأن انحصار مرجع التقليد في شخص واحد يُدعى بأنه أعلم، قد أوجد زعامات متعددة ولربما في زمان واحد، مع أنهم غير معصومين. مما فسح المجال واسعاً في الكثير منهم، للتنافس الدنيوي، والسعي نحو الرئاسة والنفوذ، وجمع الأموال، والتقصير في إيصالها إلى مستحقيها من المحتاجين. أو رفد المجتمع بما يسد النقص لديه على مختلف الأصعدة. سواءً أكان هذا التقصير منهم، أم من بطانتهم وحواشيهم المقربين منهم. وهذا مما يؤسف عليه. وعلى ذلك الكثير من الأمثلة. بحيث أصبح التقاتل على نفس لقب الأعلم معيباً، وقد جرَّ المجتمع إلى الكثير من الحوادث المؤسفة.

وهذا التنافس الذي قد يصل إلى حد العداء بين بعض الفقهاء، لم يقتصر عليهم أو على المقربين منهم. وإنما سرى إلى الكثير من أتباع كل فقيه تجاه أتباع فقيه آخر. مما أوجد الضغائن والكراهية التي قد تصل إلى نتائج كارثية أحياناً على مستوى الأخلاق وروحانية باطن الناس. أو قد يجر إلى العنف فيما بينهم أحياناً. وكل ذلك مرفوض ولا ينسجم مع مدعى التربية التي ينبغي على الفقهاء جميعاً، أن يتعاونوا من أجلها. لكي يتحقق الغرض من إصلاح المجتمع.


أسعد الناصري


***********************


***********************

التنقل السريع