يا
ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً
يمتنع
بعض الخطباء _أعزهم الله_ من ذكر هذه العبارة منذ أن علموا بأن سيدنا الأستاذ
(قدس سره) قد ناقش ذلك في كتابه (أضواء على ثورة الحسين) ببعض النقاشات
الفكرية والنظرية من الناحية اللغوية والمعنوية، فتوهموا بأنه يمنع من قولها! وهو
توهم لا أساس له، وذلك بعد الالتفات إلى ما سوف نذكره هنا:
أولاً: أنه كان يستمع إلى عدد من الخطباء
يقولونها، ولا ينهاهم عن ذلك، حتى من كان يلقي محاضراته في برانيه، ومنهم كاتب هذه
السطور. فلطالما كنت أرددها، ثم أجلس إلى جانبه من دون أن ينبهني على شيء من ذلك.
فإن كان يحتمل الغفلة من بعضهم بناء على عدم الجواز المزعوم، مما يسقط عنه وجوب
الردع. فإن ذلك لا يجري في حقي لقربي منه ومن آرائه وذوقه. علماً أنه أهداني نسخة
خطية من كتاب الأضواء قبل طبعه. وكنت أستشهد ببعض المطالب في ذلك الكتاب
خلال محاضراتي وكان يأنس بذلك. فلو كان يمنع من ذكر هذه العبارة فقهياً لوجب أن ينبهني
ولم يفعل.
ثانياً: كان (قدس سره) يقول بأن فتاواه تؤخذ
من الرسالة العملية كمنهج الصالحين والصراط القويم، والكتب الاستفتائية كمسائل
وردود. ولا تؤخذ من الكتب الأخرى حتى لو كانت كتباً استدلالية في الفقه ككتاب (ما
وراء الفقه). لأنه في هذا الكتاب قد يوصل الاستدلال إلى مستوى يناسب المقام،
ويقول في الكثير من الموارد: (وتمام الكلام في الفقه) كما تكرر منه ذلك. ويقصد
بقوله في الفقه، البحوث الاستدلالية المعمقة، أو ما يسمى بالبحث الخارج. ومن
الشواهد على ذلك في مسألة تزويج البكر في (ما وراء الفقه) ولمن تكون
الولاية عليها. وذلك لوجود طائفتين من الروايات المعتبرة. وبعد المناقشة ومحاولة
حل التعارض قال: (وعلى أي حال فإن تم الوجه الثاني المنتج لتقديم الطائفة
الأولى فهو، وإلا كان الاحتياط وجوبياً في الاشتراك في الولاية بين البكر وأبيها
واعتبار رضاهما معاً). ثم يختم المطلب بقوله: (وتمام الكلام في الفقه).
ما
وراء الفقه ج 6 ص 184.
ولم
يحسم حل التعارض بين الطائفتين بالذهاب إلى الجمع الدلالي العرفي، أو بترجيح طائفة
على أخرى بحسب المرجحات المعروفة في باب التعارض. وإلا لما احتاج إلى ذكر الاحتياط
الوجوبي.
ولكنه في منهج الصالحين يحصر ذلك برأي الأب دون
رأيها. بقوله: (الظاهر كفاية رضا الولي الأب عن رضا البكر وإن كانت رشيدة).
وهي فتوى في هذه المسألة. والاحتياط المشار له بعد ذلك بقوله: (وإن كان مقتضى
الاحتياط الأكيد حصوله) هو احتياطي استحبابي لا محالة، ولكنه مؤكد.
أنظر
منهج الصالحين ج 4 ص 8.
هذا
هو الحال في بعض الكتب التي تناقش الفقه ولكنها ليست برسالة عملية. فضلاً عن الكتب
الأخرى التي لا علاقة لها بالفقه بشكل مباشر، كالأضواء والشذرات والموسوعة وغيرها.
فلا يمكن أن تؤخذ فتاواه الفقهية منها.
ثالثاً: لقد ورد استحباب قول (يا ليتني
كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً) عند ذكر الإمام الحسين (صلوات الله عليه). وذلك
في رواية ابن شبيب عن الإمام الرضا (صلوات الله عليه).
فقد
روى الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) في كتاب عيون أخبار الرضا ج 2 ص 268 بسنده عن
الريان بن شبيب قال: دخلت على الإمام الرضا عليه السلام في أول يوم من المحرم..
إلى أن قال: (يا ابن شبيب إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما
لمن استشهد مع الحسين بن علي عليه السلام فقل متى ذكرته: (يا)
ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً).
فهي
واضحة الدلالة على الاستحباب. ولكن المناقشة في سندها. فقد نوقش في محمد بن علي
ماجيلويه الذي يروي عنه الشيخ الصدوق. وأنه لم يوثق من الرجاليين
كالنجاشي. ولكن هذا قابل للمناقشة بأن الشيخ الصدوق روى عنه كثيراً وخصوصاً
في الفقيه وهو من مشايخه، وكذلك ترضَّى عنه كثيراً. وحكم بصحة جميع روايات الفقيه.
علماً بأنني لست على مسلك الوثاقة، وإنما على مسلك الوثوق والاطمئنان
الذي لا يحتاج إلى توثيق كل الرواة، بعد قيام قرائن على الاطمئنان بالصدور، كما هو
مُحقق في محله.
وما
تقدم، مضافاً إلى روايات أخرى بنفس مضامين هذه الرواية، تعطينا اطمئناناً بالصدور.
رابعاً: أننا وإن لم نقل بصحة قاعدة
التسامح في أدلة السنن، ولكن سيدنا الأستاذ (قدس سره) يقول بصحتها،
فحتى لو لم يكن السند موثقاً، فإن قاعدة التسامح كافية وفقاً لمبناه للقول
بالاستحباب ببركة (أخبار من بلغ) حتى لو جاء بها المكلف برجاء المطلوبية.
خامساً: أن الأصل المؤمِّن هنا هو (البراءة)،
فلو تنزلنا عن كل ما تقدم _ولن نتنزل_ وقلنا بعدم وجود رواية معتبرة على الجواز أو
الاستحباب، فحينئذ نعود إلى الأصول العملية ونقول بالجواز، بناء على أصل البراءة.
ومن
هنا وبمناسبة اقترابنا من شهر محرم الحرام فإن من الراجح أن نفتح الباب مما تقدم للحديث
عن بعض النقاط التي تصلح أن تكون توصيات خاصة بالخطباء، وعامة في بعض جوانبها
لجميع المؤمنين السائرين على نهج الإمام الحسين (عليه السلام) والملتزمين بخدمته
بأي نحو من أنحاء الخدمة الشريفة.
1-
أن المستوى الإيماني والعقلي والنفسي ينبغي أن
يكون عند الفرد بالشكل الذي يؤهله إلى مستوى الثبات والإخلاص، بحيث لو كان في زمان
سيد الشهداء (صلوات الله عليه) لكان من أنصاره والمدافعين عنه، وأن يكون جزءاً من
ثورته بكل ما يملك. وأن يكون بهذا المستوى في كل مكان وزمان. لأن نصرة الحسين لا
تقتصر على حال التواجد في كربلاء إبَّان نهضته. وإنما يكون ذلك بشحذ الهمة في طريق
التكامل، لنيل درجات اليقين التي تجعله بهذا المستوى. ليكون صادقاً عندما يقول: (يا
ليتنا كنا معكم)، لا أنه يفشل في أدنى اختبار على أرض الواقع.
2-
أن يكون الخطيب طالباً للعلم على الدوام، ملماً بمختلف
القضايا الفقهية والأخلاقية والفكرية. يسعى للمزيد منها. ليكون متسلحاً بما
يمكِّنه من القيام بأعباء التبليغ للمجتمع. ومن هنا فإن كثرة القراءة والبحث،
وتحصيل العمق في ذلك، والاستقلالية في التمعن والتحليل، لا أن يكون مستهلكاً
لأفكار الآخرين وناقلاً لها فقط. كل ذلك يجعل من الخطيب أنموذجاً ناجحاً ومؤثراً
في مختلف طبقات المجتمع. وكذلك بذل الجهد الدائم في التحضير لما سوف يتحدث عنه، لا
أن يكون مرتجلاً ومعتمداً على معلوماته السابقة فقط. لأن ذلك سيجعل منه شخصاً
متوقفاً علمياً في حدود ثابتة غير قابلة للتطور وتنضيج الوعي. ومن الراجح أن يسعى
الخطيب إلى أن يكون فقيهاً، لا أن ينخدع بما يقال على بعض الألسنة من أن الخطيب لا
يمكنه ذلك، أو لا يحق له. فإن هذه خدعة سمجة ينبغي ألا تنطلي علينا. لأن الخطيب
الفقيه سوف ينفع المجتمع أكثر بطبيعة الحال لما يحمله من غزارة علمية في مختلف
الجوانب الفكرية. وستكون له العقلية التي تجعل أدوات اللغة والمنطق والفقه
والتفسير والحديث وغيرها، مؤثرة في فهمه للآيات والروايات والتأريخ والقضايا
الاجتماعية والأخلاقية أو تحديد التكليف والمسؤولية الشرعية. وكل ذلك ينعكس على
شخصيته وثقلها المعنوي، وعلى تمكنه من التأثير في نفوس الآخرين وإيصال الخير
والهداية لهم بشكل متكامل. وإن لم يكن فقيهاً فلا أقل من أن يكون بدرجة عالية من
التفقه والوعي والثقافة، للوصول إلى كمية معتد بها من تلك النتائج التي أشرنا إليها.
3-
أن يكون الخطيب قريباً من المجتمع، ملماً بما
يدور فيه من مشكلات وانحرافات أخلاقية، حاذقاً في تحديد الداء وملماً بطريقة
العلاج ووصف الدواء بالحكمة والموعظة الحسنة. كما قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل: 125]. ويطرح كل ذلك بشكل مفهوم ومحبب
مستخدماً وسائل الإيضاح المناسبة. بعيداً عن التعقيد في طرح الأفكار. معتمداً على
الفكرة الطريفة والقصة اللطيفة. واعياً جداً للغة العيون، ليأخذ من المتلقين
الرسائل التي يفهم من خلالها مستوى تفاعلهم واقتناعهم وتقبلهم أو عدم ذلك. وهو
بدوره يبعث الرسائل المناسبة التي تساعده على الإقناع. فالخطابة إنما هي فن
الإقناع.
4-
ألا يقترب الخطيب من العلوم الحديثة والاستشهاد
بها، إلا أن يكون ملماً بها بدرجة كافية ويحمل عنها فكرة مناسبة من جميع جوانبها،
وخصوصاً بعد هذا الانفتاح الحاصل، وتيسر تحصيل المعلومة من قبل الجميع. ووجود
مختلف المستويات في المجتمع الذي يمارس فيه الخطابة. فقد روى شيخنا الكليني (رضوان
الله عليه) بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (ما
علمتم فقولوا، و ما لم تعلموا فقولوا: الله أعلم، إن الرجل لينتزع الآية من القرآن
يخر فيها أبعد ما بين السماء والأرض). الكافي للشيخ الكليني ج 1 ص 42 (باب النهي عن القول بغير علم) الحديث 4. وروى بسنده
عن زرارة بن أعين قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) ما حق
الله على العباد؟ قال: (أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون). نفس المصدر ص 43 الحديث 7. أما إذا كان غير ملم
بذلك، ويدخل فيما لا يفهم ولا يدرك. فإنه سوف يسقط من نظر الكثيرين، ويحرمهم من
الاستفادة حتى من الأمور التي يتقنها. وإذا كان كذلك، فإن الأفضل له أن يخوض في
القضايا الداخلة ضمن اختصاصه، احتراماً منه لنفسه، وللمتلقي. وليس عيباً أن يعترف
الإنسان بجهله في العلوم التي ليست من اختصاصه، وألا يقحم نفسه فيها من الأساس.
ومن المهم ألا يقدم نفسه ملماً بكل العلوم والمعارف. لأن ذلك هو الجهل بعينه وستظهر
عيوبه لا محالة.
5-
التأكيد على الأخلاق والقيم التي تبني المجتمع،
وتعالج الانحدار والتفاهة التي أضحت محل اهتمام من قبل الكثيرين، في حملات منظمة
لتجريد الناس من الأصالة والنقاء والمحتوى السامي الذي يريده الله تعالى وأهل
البيت (صلوات الله عليهم)، وعملوا على زرعه في النفوس، عبر الشعائر التي ضحوا من
أجل ترسيخها، لأنها هي التي تنتج الخير والصلاح. قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]. وأما البدائل الموهومة والتي هي عبارة
عن قشور ومضيعة للوقت والهوية والقيم الأخلاقية، فإنها زوبعة في فنجان. ومسؤولية
الخطباء الأخذ بيد من له القابلية للتأثر بها، وانتشاله منها نحو الهداية والوعي
والتكامل والحياة الحقيقية النقية. كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24] ولا يكون ذلك إلا ببيان حقيقة هذه
البدائل المصطنعة، وضررها على النفوس. وتقديم الأنموذج الأمثل الذي ينسجم مع العقل
والفطرة السليمة والأخلاق الفاضلة، وما يريده الله تعالى لنا من خير الدنيا
والآخرة. وكل ذلك يعتمد على الثقافة والتجدد الواعي في الخطاب، والإحاطة الكافية
لما في النفوس والمجتمع.