لماذا تأخر دفن الحسين ثلاثة أيام؟
من الأمور التي يمكن تناولها لأخذ
العظة والعبرة مما هو مرتبط بالإمام الحسين (صلوات الله عليه)، هو التساؤل عن
الحكمة المحتملة في تأخر دفن الإمام (عليه السلام) لمدة ثلاثة أيام. مع الالتفات إلى
أننا لسنا مطلعين على الواقعيات، وعلينا أن نقدم جهلنا تجاه ذلك، وبالتالي فلا
يمكن لنا أن نجزم بوجه الحكمة لأنه فوق مستوى عقولنا. وإنما غاية ما نستطيع تقديمه
بهذا الصدد، هو بعض المحتملات التي تصلح للجواب عن هذا السؤال.
وقبل الدخول في تفاصيل الجواب
علينا أن نذكر بأننا عندما ننظر إلى أي فعل يصدر من أي فرد، فإننا تارة ننظر إلى
هذا الفعل من زاوية نفس الفاعل وأنه يتحمل مسؤولية فعله سلباً أو إيجاباً. وتارة
ننظر إلى نفس الفعل من زاوية الحكمة الإلهية، وأنها يمكن أن توظف فعل أي فرد بما
يتماشى مع التخطيط الإلهي والحكمة الإلهية.
ونستطيع أن نمثل لذلك بمثال واضح،
وهو نفس مقتل الحسين (عليه السلام)، فإننا إذا نظرنا إليه من زاوية نفس الفاعل
الذي قتل الإمام (عليه السلام)، فإن القاتل قد قام بأبشع جريمة في التأريخ، وأنها
تنتج له الخلود في جهنم وساءت مصيراً. وإذا نظرنا إلى هذا الفعل من زاوية الحكمة
الإلهية، وأن الله تعالى شاء أن يرى الحسين (عليه السلام) قتيلاً، فإن للحسين
مقامات لا ينالها إلا بالشهادة على المستوى الشخصي، وأن هناك مصالح عليا لنفع
الدين على المستوى العام. لوجدنا النفع والصلاح الذي أعدَّه الله تعالى من مختلف
الجهات بسبب مقتل الحسين (صلوات الله عليه).
وإذا طبقنا هذا المستوى الفكري
على ما نحن بصدد الحديث عنه، وما يتعلق بالحكمة الإلهية التي تعلقت ببقاء الجسد
الطاهر للحسين (عليه السلام). فإننا لا نريد الحديث هنا عن السبب الذي جعل أعداء
الإمام الحسين يتركونه من دون دفن، فإن هذا متوقع منهم بعد ما قاموا به من جرائم
شنيعة. إلا أننا نريد التساؤل هنا عن هذا التأجيل من زاوية الحكمة الإلهية. مع الالتفات
إلى أن الإمام السجاد (عليه السلام) كان باستطاعته الرجوع إلى دفن الأجساد الطاهرة
قبل يوم الثالث عشر، ولا يحول دون ذلك أي حائل، لأنه أساساً قد عاد إلى الدفن
بالمعجزة وليس بحسب الأسباب الطبيعية كما هو المروي تأريخياً بوضوح. فلماذا حصل
ذلك؟
ويمكن الجواب بعدة وجوه محتملة غير متنافية وهي كما يأتي:
أولاً: أن في ذلك ابتلاءً لنفس الإمام الحسين (عليه السلام)، مما ينتج له
أخص الدرجات العالية. ويؤيد ذلك ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أنه
قال للحسين (عليه السلام): (وإن لك في الجنان درجات لن تنالها إلا بالشهادة).
بحار الأنوار للشيخ المجلسي الجزء 44 الصفحة 328.
فإن الشهادة التي أنتجت له هذه
النتيجة العظيمة، هي تلك الشهادة التي رزقه الله تعالى، ووفقه إليها بكل تفاصيلها.
وما جرى عليه من قتل بذلك الشكل الذي يقرح القلوب، وما أعقب ذلك من تقطيعه، ورض
صدره، وقطع رأسه، وبقائه ثلاثاً من دون دفن، وغير ذلك من تفاصيل، قد ساهم بأن تكون
شهادته فريدة بكل المقاييس. فإنه وفق إلى شهادة لم يوفق لها أحد من البشر على
الإطلاق. فقد روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسنده عن المفضل بن عمر عن الصادق جعفر
بن محمد، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام): (أن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه
السلام) دخل يوماً إلى الحسن (عليه السلام)، فلما نظر إليه بكى، فقال له: ما يبكيك
يا أبا عبد الله؟ قال: أبكي لما يُصنع بك. فقال له الحسن (عليه السلام): إن الذي
يؤتى إليَّ سم يدس إليَّ فأقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك
ثلاثون ألف رجل، يدَّعون أنهم من أمة جدنا محمد (صلى الله عليه وآله)، وينتحلون
دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك، وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك،
وانتهاب ثقلك، فعندها تحل ببني أمية اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي
عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار). الأمالي للشيخ
الصدوق الصفحة 177.
فإن قلت: بأن بقاء الحسين (عليه السلام) من غير دفن قد حصل بعد شهادته، فكيف
يكون في ذلك البلاء له وقد استشهد، والابتلاء يكون على الفرد في حياته وليس بعد
وفاته؟
قلنا: بأن الحسين (عليه
السلام) عندما أقدم على المصير الذي أقدم عليه، فإنه كان يعلم به تفصيلاً. فقد روي
عنه قوله: (وخِير لي مصرع أنا لاقيه. كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين
النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً. لا محيص عن يوم خط
بالقلم. رضى الله رضانا أهل البيت نصير على بلائه ويوفينا أجور الصابرين)
اللهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس الحسني الصفحة 38.
فيكون (عليه السلام) قد وطَّن
نفسه لهذه الشهادة، وأنه سوف يقع عليه بعد القتل الكثير من المظالم، بما في ذلك رض
صدره وسلبه وبقاؤه من دون دفن على رمضاء كربلاء، تصهره حرارة الشمس لمدة ثلاثة
أيام.
ثانياً: أن ثورة الحسين (عليه السلام) قد اتسعت رقعتها عن علم وعمد من قبله (صلوات
الله عليه)، وكذلك عن علم وعمد من الله سبحانه وتعالى بحسب الحكمة الإلهية، وذلك
لإعطائها الزخم المكثَّف الذي يعطيها أسباب البقاء والخلود ظاهراً وباطناً.
فإننا نجد ثورة الحسين (عليه السلام) تحتوي على عدة
مستويات وجوانب، فكرية وثقافية وإعلامية وعسكرية وعاطفية وغيرها. فإنها لم تركز
على الجانب العسكري فقط كما يحصل في بعض المعارك، وإنما أُشبعت بكل ذلك.
وإذا نظرنا إلى الجنبة العاطفية،
وهي جنبة مهمة وحيوية من أجل إعطائها الديمومة والخلود بهذه القوة المتجددة. فإننا
نجد أنها قد تضمنت الكثير من المواقف التي تثير العاطفة والبكاء. وهذه المواقف
العاطفية المنتجة للجذب تجاه هذه الثورة المباركة بكل تفاصيلها العظيمة، مكثفة
ومركزة واستثنائية. سواء في ذلك ما كان في يوم عاشوراء أم قبل ذلك أو بعده. فيكون
تأجيل الدفن داخلاً في هذا المستوى من التفكير. وهي مصيبة عظيمة باستقلالها تظهر
مدى الظلم الذي وقع على الإمام (صلوات الله عليه) وأهل بيته وأصحابه وما تحملوه في
سبيل الله عز وجل.
ثالثاً: أن بعض الحوادث التي مرت عبر التأريخ فيها الدلالة الواضحة على الغضب
الإلهي، كما حصل ذلك من خلال خفاء قبر الزهراء (صلوات الله عليها). وكذلك الأمر
فيما يخص غيبة الإمام المهدي (صلوات الله عليه) فإنه علامة على الغضب الإلهي على
اختلاف مستويات هذا الغضب.
مضافاً إلى الحِكم الأخرى. والأمر كذلك فيما نحن بصدده، فإن بقاء ريحانة رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة بتلك الهيئة على الرمضاء، لهو مؤشر يدل
على ما آل إليه حال الأعم الأغلب من المجتمع، والتقاعس الذي ابتليت به الأمة تجاه
الإمام الفعلي للكون، الذي له الولاية التكوينية والتشريعية، والذي هو خامس أهل
الكساء الذين هم أعلى الخلق على الإطلاق. هذا التقاعس والتخاذل في أداء الواجب
وإرجاع الحقوق إلى أهلها، هو الذي أنتج هذه المأساة من قتل الحسين وأهل بيته وأصحابه. وما أعقب ذلك من
مصائب جمة كان فيها الاعتداء الفاضح على الإنسانية وعلى الحق المهتضم.
وتلك المظالم التي لا نظير لها هي التي أنتجت الغضب
الإلهي، الذي تجسد بأن مطرت السماء دماً كما ورد عن الإمام الرضا (صلوات الله
عليه) مخاطباً ابن شبيب: (يا بن شبيب، لقد حدثني أبي، عن أبيه، عن جده (عليه
السلام): أنه لما قتل جدي الحسين (صلوات الله عليه)، مطرت السماء دماً وتراباً
أحمر). الأمالي للشيخ الصدوق الصفحة 192. وكذلك يمكن أن يكون قد رُمز له ببقاء
الجسد الطاهر ثلاثاً من دون أن يوارى.
وهذا ما يجعل في ذمة الأجيال التي
أعقبت ثورة الحسين (عليه السلام) المسؤولية الدائمة في أن لا نكون مشمولين بهذا
الغضب الحسيني. فإننا وإن لم نعاصره (عليه السلام) لنكون مكلفين مباشرة بندائه
المبارك: (من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يغثنا كان حقاً على الله
عز وجل أن يكبه على منخريه في النار) بحار الأنوار الجزء 27 الصفحة 204. على
المستوى العسكري. إلا أننا مشمولون بهذا النداء على عدة مستويات، ومنها مستوى الالتزام
بشريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) التي استشهد الحسين (عليه السلام) من
أجلها. وأما بخلاف ذلك فإننا نكون مقصرين تجاه تلك التضحيات الجسام، ولا نكون في
المعسكر الحسيني بمعناه العام. بل نكون مشمولين للغضب الحسيني الذي تجسد بتلك
الرمزية التي نتحدث عنها.
وهذا الالتزام يكون في جميع
أوقاتنا وأحوالنا، ولا يقتصر الأمر على الأيام التي نستذكر فيها مصيبة سيد الشهداء
(عليه السلام). بل لا بد من الاحتفاظ بكل ما ينتجه القيام بالشعائر الحسينية في
مثل هذه الأيام من نتائج إلى جميع أيام السنة، لنكون حسينيين في جميع أفعالنا
وأقوالنا وتصرفاتنا. فإن من التجني على أنفسنا وعلى ديننا فيما إذا احتفظنا بنتائج
الشعائر الحسينية لبعض الأيام من حياتنا فقط. وإنما علينا أن نكون على مستوى
المسؤولية تجاه ذلك جزاكم الله خيراً.
رابعاً: أن في ذلك ابتلاءً وامتحاناً لعائلة الحسين (عليه السلام) الذين
تحملوا مسؤولياتهم بعد واقعة الطف، بما فيهم الإمام السجاد (عليه السلام). فإنهم
مروا بصعوبات ومصائب قلَّ نظيرها، وكل ذلك ينتج لهم مقاماتهم الخاصة التي ادَّخرها
الله تعالى لهم بسبب مساهمتهم في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، ولما فتحه
الإمام الحسين لهم من الفرصة الفريدة، لينهلوا من ذلك العطاء الخاص كل بحسبه
واستحقاقه. ومن تلك الفجائع التي ابتلوا بها هي أن يتركوا سيدهم وإمامهم وحبيبهم
مقطعاً على ثرى الطف. فقد مروا بهم على جسده الطاهر، وساروا بهم إلى الكوفة
وعيونهم ترنو نحو المصرع، بتلك الحالة التي أبكت الحجر دماً. فكيف بهم وقد عاشوا
في كنفه وتحت ظله ردحاً طويلاً من الزمن، يحنو عليهم بعطفه وحنانه ويمدهم بالتربية
المركزة علماً وعملاً.
وليس من السهل على الفرد أن يترك
أخاه أو أباه أو زوجه بتلك الحالة. فكيف إذا كان هذا الشهيد المضرج بدمائه مضافاً
إلى ذلك هو شيخه وسيده وإمامه.
فكانت في ذلك بلاءات مضاعفة ترفع من شأنهم ودرجاتهم، إذا
قابلوها بالصبر والتسليم وعدم الاعتراض على ما أراده الله تعالى، كما كان موقفهم
أمامه جل شأنه.
وعلينا أن نأخذ من هذا الموقف السامي العظة والعبرة،
وعلينا أن نتأسى بذلك. فإن الله تعالى لا متناهي العظمة وتهون أمامه أعظم
التضحيات. وما قيمة تضحياتنا قياساً بهذه التضحيات الجليلة؟
إلى غير ذلك من الوجوه التي لا يسع المجال لذكرها. يكفي
أن نكون قد أثرنا مثل هذا التساؤل الذي قد يفتح أمامكم وجوهاً أخرى يمكن التفكير
بها.
أسعد الناصري