ما من واقعة إلا ولها حكم (2)
الحلقة الثانية
قبل الدخول في مناقشة الأدلة التي استندوا إليها
لإثبات ما أسسوا له من قاعدة (ما من واقعة إلا ولها حكم) ولكيلا يأخذ البحث
منحى الجمود الفقهي أو الكلامي لدى القارئ غير المتخصص فيهما. أود أن أستعرض هنا
بعض الأمور التي يحسن الالتفات لها، والتي قد تكون خافية على الكثيرين.
عندما تطلِّع على بعض الدورات الأصولية أو الفقهية،
فإنك تجد الكثير مما يطول الكلام فيه حتى يصل البحث فيه إلى سنوات، من دون ثمرة
عملية، وهو تطويل بلا طائل باعترافهم. فقد يبتدئون علم الأصول بتعريفه مثلاً. ويأتي
الأصولي المتأخر في محاولة لذكر تعريفات السابقين ومناقشتها وتفنيد الكثير مما هو
غير مقتنع به وفقاً لاجتهاده، ثم يثبت التعريف الذي يراه مناسباً. علماً أن غيره
من معاصريه أو المتأخرين عنه يضعون تعريفه على طاولة النقد، وقد يُشْكِلون عليه
ويرفضون ما جاء به. وهذا متعارف عليه في الحوزات على صعيد الكتابة، وعلى صعيد
التدريس في البحوث العالية التي يصطلحون عليها بالبحث الخارج. مع أن التعريف لعلم
الأصول أياً كان، لا يستفيد منه الفقيه عندما يمارس عملية الاستنباط من الناحية
العملية.
وأكثر هذه المناقشات إنما هي لإثبات
الجدارة العلمية للأصولي، لتحقيق هدف إثبات نفسه على الصعيد العلمي، وآخر هم
الكثيرين تقديم نظريات علمية حقيقية تتقدم فعلاً بتطوير الفقه، ومواكبته للعصر!
والكثير منهم يعترف بذلك، حتى أنه يختصر الكلام في الدورة الأصولية الثانية عندما
يُدَرِّسُها، لأنه يرى بأنه قد أثبت جدارته في الدورة الأولى.
ومن هنا صُرِفَت الكثير من الإمكانات لطباعة هذا
الفضول في علم الأصول! وأخذوا سنين طويلة من عمر الطالب وجهده وتفكيره، قد تصل
السنوات الضائعة إلى عشر سنوات أو أكثر، فيما لو تكرر ذلك في مواضيع مختلفة من
أبواب علم الأصول!
دعوني أبين ذلك بشيء عملي عشته أكثر إيضاحاً. وحاصله أنني درست كتاب (شرح اللمعة الدمشقية) لدى عدد من الأساتذة، وهو كتاب من عدة أجزاء يدرسه طالب العلم في مرحلة السطوح. ومن هؤلاء الأساتذة أحد العلماء، وكانت تربطني به علاقة طيبة على المستوى الشخصي. وكان الدرس خاصاً، وهو يتوسع في بعض المطالب بالمقدار المناسب والنافع، ويقول سأعطيكم من المطالب ما يختصر عليكم الطريق، ويقربكم من البحث الخارج. وأشار إلى نقطتين مهمتين:
الأولى: أن المتميزين
من طلبة الحوزة لا ينبغي لهم أن يطيلوا دراستهم للكثير من المطالب والمواضيع التي
لا أهمية لها، بل عليهم أن يركزوا على ما هو المفيد والنافع من الناحية العملية،
وأن يختصروا الطريق ليصلوا إلى الاجتهاد. ومن جملة الأمثلة التي ذكرها بأن أحدهم
كتب كتاباً يحمل عنوان الفصول في علم الأصول، وأرسله إلى أحد العلماء ليبدي
ملاحظاته حوله، أو أن يكتب له مقدمة. فأعاد له الكتاب فيما بعد ولم يكتب له أي
ملاحظة أو مقدمة أو غير ذلك. فسأله عن سبب امتناعه عن كتابة شيء! فقال له: بلى قد
كتبت! قال: وأين ذلك؟! فقال له: انظر إلى العنوان. فنظر وإذا به يرى أنه قد أضاف
نقطة على الصاد من كلمة الفصول، لتصبح الفضول! بمعنى أن الكثير مما ورد فيه فضول
زائد لا فائدة منه.
الثانية: قد أخرج لي
كتاباً قديماً في الأصول، وهو كتاب صغير الحجم. ومن ثم أخرج لي بحث (المشتق)
في ذلك الكتاب. وإذا به عبارة عن أربع صفحات تقريباً أو أقل!
بحث المشتق عندما يناقشه الأصوليون مؤخراً في البحث
الخارج، فإنهم يحتاجون إلى أكثر من سنة. وعندما يكتب فإنه يحتاج إلى مجلد كبير
الحجم. علماً أنه بحث لا ثمرة عملية له في استنباط الحكم الشرعي! فلماذا هذا الوقت
والجهد والورق والمجلدات الضخمة التي تعاد طباعتها مرات ومرات؟! وغير بحث المشتق
الكثير من مباحث الألفاظ في علم الأصول. والأمر يشمل الكثير من مباحث الأصول
العملية أيضاً.
قد يجيبون طلبتهم بأن هذه المباحث وإن لم تكن لها
ثمرة عملية، ولكنها تذكر بهذه الاستفاضة من أجل شحذ الذهنية، وتعليم الطالب على
الصبر في بحثه ليصل إلى النتائج بعمق وموضوعية.
صدقوني أن هذا تبرير لا صحة له. وهو عبارة عن استنزاف
لوقت الطالب وتشتيت لتفكيره، وإشغاله بالفضول عن المطالب المهمة. وأغلبه يكون من
أجل إثبات الجدارة العلمية النظرية الشخصية. مضافاً إلى أنها مباحث تبعد الطالب عن
الذائقة العرفية التي يمكنه من خلالها أن يفهم النصوص من القرآن والسنة
بشكل أفضل وأقرب إلى الواقع. وعندما يصل الطالب إلى محاولة الاستنباط فيما بعد يجد
أن سنوات من عمره قد ضاعت ولم يحتج إلى تلك المباحث عملياً. ناهيك عن الخوف الذي
يزرع في نفوسهم بسبب تلك الطلاسم التي يتصور أنها علوم حقيقية، تنتج للكثيرين منهم
الرهبة أمام الاجتهاد والاكتفاء بما دونه. مع أن الاجتهاد أمر يسير وليس بهذا
المستوى المخيف الذي يتصورنه.
اكتشفنا فيما بعد أن بعض الأسر العلمية يختصرون على
أبنائهم، ويعطونهم المفاتيح والمطالب المهمة التي تُسهِّل عليهم الطريق. ولذلك
نجدهم يصلون إلى البحوث العالية بعمر صغير! أما الطلبة من خارج هذه الأسر العلمية،
فإن غالبيتهم يظهر لهم الشيب وما زالوا يدورون في دوامات ومتاهات بحوث الخارج من
دون جدوى. وسعيد الحظ منهم من يكتشف الحقيقة، ويفهم اللعبة!
ولو شغلوا الطلبة بعلوم حقيقية في هذا العمر، حتى لو
كانت خارج السياقات والمناهج الحوزوية لكان أولى وأكثر فائدة.
كنا نحضر بحث الشيخ محمد إسحاق الفياض،
ونستثمر الوقت قبل البحث بمناقشة بعض المسائل مع عدد من الزملاء. وقد سمعت رأياً
لأحد الطلبة، بأن مني الرجل مع السائل الذي ينزل من المرأة عند العملية الجنسية
هما من يكوِّن الجنين! أصبت بصدمة وخيبة أمل في حينها. وقلت له بأن السائل المنوي
للرجل يذهب إلى داخل رحم المرأة، فإن صادف نزول البويضة لقحها الحويمن الأول من
بين ملايين الحيامن. ولا علاقة للحمل بسائل المرأة حال القذف. حتى لو لم يكن ذلك
السائل موجوداً أو لم تصل إلى مرحلة الذروة.
هذه معلومة بسيطة لو كان قد قرأ أبسط الكتب العلمية
لفهمها. وهذا الجهل المروع سوف ينعكس على عملية استنباطه للأحكام الشرعية فيما
بعد. لأنه أفنى عمره في ملاحقة العلوم الزائفة والبحوث غير العملية.
هذا التضخم والترهل في الكثير من نتاجات المؤسسة
الدينية، لم يكن من أصل الدين، وإنما هو توسع جاء نتيجة إثبات آراء وأذواق شخصية
من أجل الزعامة، أو المال، أو الشهرة، أو أوهام ومسلَّمات لا أساس لها جاءت عن
طريق التلقين. أو أنه هوس استفحل وأنتج حشر أنف الكثير من رجال الدين في مختلف
القضايا التي لا يفهمون فيها، بل أفسدوها، وصاروا ملكيين أكثر من الملك.
ما وَصَلتْ إليه هذه الأفكار ومناقشاتها ونتائجها
لو عرضت على الرعيل الأول من المسلمين لأنكروها، واستغربوا منها، ورأوا أنها خارجة
عن ذوق وروح الشريعة الأصلية. وهذا كله كان السبب في الاختلافات القائمة بين أبناء
الدين الواحد، بل المذهب الواحد. ولم تجدهم يتفقون في الغالبية الساحقة من
الأحكام، وكأن ما يطرح ينتمي إلى شرائع متعددة لآلهة متعددة! نعم وكأنها لآلهة
وليس لإله واحد! وإلا فبماذا تفسر اختلافهم في نفس المسألة إلى من يرى جوازها، ومن
يرى حرمتها؟! فما هو موقف الإله الواحد من ذلك؟ وتبريرهم بأنه اجتهاد، والمجتهد له
أجر حتى لو أخطأ! والتابع للمجتهد معذور. هو تبرير لا يعالج المشكلة بل يزيدها
تيهاً. وكان المفترض بهذا التقدم في علومهم كما يزعمون، أن يُوَحِّد الكلمة،
ويجمع الناس، ويقترب من الحقيقة أكثر. ليصلوا إلى مراد دينهم كما هو!
وبعد كل ذلك أيهما أفضل؟ أن يذعنوا بأن الدين جاء
بأحكام محددة، يدورون في فلكها، ولا يتدخلون فيما لا يريد الله أن يتدخلوا به. أم
يَدَّعون بأن الدين يتدخل في كل واقعة مهما امتد الزمن، فتتضخم لديهم الآراء
والاجتهادات، وتضل عن الهدف الحقيقي، وتُدخِل الناس في دوامات لها أول وليس لها
آخر؟
دعونا الآن ندخل في الأدلة التي استندوا إليها
لتأسيس قاعدة (ما من واقعة إلا ولها حكم).
الدليل العقلي
قد يُدَّعى بأن العقل يحكم بأن الإنسان قاصر في فهم
الحقائق والمصالح العامة، وما ينفعه ويضره في هذه الحياة. وأن الأفعال منها ما
يتصف بالحسن ومنها ما يتصف بالقبح. ومن هنا فلا بد من القول بأن العقل يلزمنا أن
نذعن بأن الله تعالى يجب عليه أن يبين الحكم في كل واقعة. وفي أي مكان
وزمان. لعلمه بالمصالح والمفاسد، وأن هذا الفعل أو ذاك متصف بالحسن بدرجة ما، أو
متصف بالقبح بدرجة ما. وهذه الدرجة قد تكون من الشدة في الحسن، فيكون الفعل واجباً،
أو مستحباً فيما لو كان بدرجة أقل. وهكذا الأمر في الحرمة أو الكراهة المتعلقة
بالفعل القبيح على اختلاف درجة القبح أو المرجوحية. وإن لم يكن هناك رجحان لأي طرف
يكون الفعل مباحاً. وهذه الأقسام يصطلحون عليها بالأحكام التكليفية الخمسة.
ولكننا نسأل -لو سلمنا بالحسن والقبح الذاتيين
للأفعال- عن أي عقل يحكم بأن الله تعالى ملزم بأن يبين هذه الأحكام؟ أو أن ينقلها
من مرحلة الثبوت إلى مرحلة الإثبات؟ كيف لمدعي هذا القول أن يثبت ذلك عقلاً؟!
نعم، العقول المؤدلجة والتي لُقنت ذلك وشربته في
مناهج تعليمها من دون تحقيق. هي التي تدَّعي بأن العقل يحكم بذلك. ولم يثبت أن
الله تعالى يريد ذلك أيضاً!
لأن عقول مختلف البشر والحضارات والأمم في غالبها،
وسيرة العقلاء على ذلك أيضاً، تعطي للعقل مساحة من الحرية والتفكير والإبداع بما
يصلح شؤونهم. ولا يجدون في أنفسهم ميلاً إلى القول بأنهم يعتمدون في ذلك على خالق
الكون! ومن هنا نجحت الحضارة السومرية أن تبتكر لنا الحرف الأول والتواصل اللغوي
المكتوب، وفن العمارة، وتربية الحيوانات، والزراعة، والعجلة التي اخترعوها لصناعة
الفَخَّار، والتي أصبحت فيما بعد البذرة لصناعة العجلة المستخدمة في الحركة
والتنقل. ونسج المنسوجات من الصوف والكتان لمختلف الملابس في مناسباتها المتعددة
ولطبقاتها الاجتماعية المختلفة. وكذلك طريقة الحكم، وكتابة المدونات القانونية
التي قد تكون هي الأساس لما جاء به حمورابي في مسلته الشهيرة في الحضارة البابلية.
وغير ذلك كثير، مما تعتبر البشرية نفسها أنها مدينة لهم مهما تطور العلم. وكذلك باقي
الحضارات والأمم التي أنتجت علوم الفلك والطب والمنطق والرياضيات ومختلف الصناعات والثقافات
التي دفعت بعجلة تطور البشر في مختلف المجالات. ولم تكن معتمدة على الأديان، إلا
من زاوية نظر الكثير من المتدينين الذين يقفزون على الحقائق وينسبون كل ذلك إلى
الأنبياء! مع العلم أن كل ما ذكرناه إنما وجد في أمم لم تكن فيها نبوات ولا أديان.
نعم كانت لدى بعضهم طقوس وممارسات دينية ناشئة من بعض الأساطير. وهي في نظر
الأديان السائدة الآن تعتبر وثنية أو أنها لا تمت إلى الأديان السماوية بصلة.
يعترف بعض علماء الغرب الآن بأن بعض علومهم إنما
أخذوها أو استلهموها من علماء عرب، أو مسلمين. وهذا مما لا شك فيه. ولكننا نسأل هل
أن علوم هؤلاء العرب أو المسلمين أخذوها من دينهم؟ أم أنها من جهدهم وإبداعاتهم؟! بدليل
أن الكثير من هؤلاء العلماء قد تمت ملاحقتهم من قبل المؤسسة الدينية نفياً وتسقيطاً
وقتلاً وغير ذلك كثير! والشواهد حول هذه الجرائم بحق العلم، التي مارسها بعض
الكهنة باسم الله كثيرة. وما زلنا نعاني منها إلى يومك هذا بسبب الرِداء الزائف
الذي لبسه بعض كهنة الدين مع شديد الأسف.
كل الأمم التي منحت الحرية للعلوم، وأبعدت المؤسسة
الدينية عنها، قد نهضت وأبدعت وابتكرت، والشواهد من حاضرنا وتأريخنا كثيرة. وأما
الأمم التي أقحمت الدين في كل تفاصيل الحياة، وأظهرت المؤسسة الدينية فيها سطوتها على
كل شيء حتى على العلم والاكتشافات، نراها جاهلة متخلفة مستهلكة لنتاج غيرها. وتعيش
أسوأ الظروف. وحاضرنا وتأريخنا يشهد على ذلك أيضاً.
في الحلقة القادمة سنبحث في (قاعدة اللطف)
التي استدلوا بها على ما نحن فيه، لنرى أن النقاش في كبرى هذه القاعدة، وأنها لم
تثبت، وليس فقط حول تطبيقها على هذا المورد. علماً أنها القاعدة الكلامية الرئيسية
التي يعتمدون عليها في إثبات النبوة والإمامة من أصول الدين! وهي قاعدة كلامية
قفزت من المعتزلة إلى الإمامية!
مضافاً إلى الأدلة الأخرى التي سنذكرها ونناقشها
تباعاً.
أسعد الناصري