ما من واقعة إلا ولها حكم (1)
الحلقة
الأولى
إن
الكثير من العبارات، ولكثرة استعمالها وتكرارها في مختلف المباحث الفقهية أو
الأصولية، تتحول بالتدريج إلى كونها من المسلَّمات. ولكنها في واقعها ليست كذلك،
ولا دليل يساعد عليها. مضافاً إلى الخلط الذي يحصل في الكثير من الأحيان بين
المسائل الكلامية، وبين الفقه أو الأصول.
ومع
أن العبارة المتقدمة في العنوان هي أقرب إلى علم الكلام، ولكنها قفزت إلى الفقه أو
الأصول، واستقرت فيهما عملياً، إلى درجة أنها اكتسبت في نظر الكثيرين درجة جعلها
قاعدة يبنى عليها الكثير من المسائل. مع أن المتمسكين بها يقولون بأنها تكتسب
قالبها وقوتها كقاعدة من روايات عديدة أفادت هذا المضمون. وتم اتخاذها كمبنى يشمل
جميع أبواب الفقه الذي كان، أو ما يستجد من فروع مهما امتد الزمان في أي مكان. وأي
واقعة مهما كان شكلها فإن لله فيها حكماً، على الفقهاء أن يحددوا على ضوء ذلك
الوظيفة الشرعية وبيان ذلك الحكم. كبعض المعاملات الاقتصادية التي لم تكن في زمان
النص القرآني أو الروائي، أو بعض الفروع الطبية كالتلقيح الاصطناعي مثلاً. أو شكل
الصلاة أو تحديد أوقاتها في ظروف لم تكن موجودة سابقاً كالصلاة في الطائرة مثلاً.
أو تحديد الهلال عن طرق الأجهزة الحديثة. أو تحديد الوظيفة الشرعية على متن
المركبات الفضائية، وخصوصاً إذا ابتعدت عن الأرض، وما يرتبط بذلك من تحديد وقت
الصلاة واتجاه القبلة والوضوء بسوائل شبيهة بالماء على بعض الأجرام الفضائية إن
وجد ذلك السائل، أو التيمم على تراب كواكب أخرى. إلى غير ذلك من المسائل التي أفرد
لها بعض الفقهاء المعاصرين أبواباً خاصة في كتبهم الفقهية ورسائلهم العملية،
أسموها (المسائل المستحدثة).
إلا
أن هذه القاعدة -لو صح لنا أن نسميها قاعدة- لا ترتكز على أساس متين لا من قرآن
ولا من سنة، وكل ما اعتمدوا عليه في ذلك قابل للمناقشة دلالة من ناحية القرآن،
وكذلك فإنها محل خدش من ناحية السند في أكثر الروايات التي اعتمدوها، ومن ناحية
الدلالة في كل الروايات التي استندوا عليها، فإنها لا تساعد على المطلوب. وهي بعيدة
عن النتيجة التي وصلوا إليها.
ولكن
الارتكاز الذي أخذوه أخذ المسلَّمات هو الذي جعل هذه الفكرة وكأن المناقشة فيها
تكون محل إشكال من الناحية الإيمانية. بمعنى أنها تشكِّل تحديداً وتحييداً
للقيومية الإلهية، وحكمته ولطفه الذي يقتضي بيان الحكم الشرعي والوظيفة في كل
حادثة أو واقعة كما يتصورون.
وهذا
المرتكز نفسه يجري من زاوية نظرهم في كل شيء، وفي الكون بجميع حوادثه. فإن الله
تعالى يتدخل في كل شيء. ولا يقع أي شيء في الكون إلا بتدخل مباشر منه، حتى
البراكين والزلازل والأعاصير والهزات الأرضية والظروف الجوية والأمراض والفايروسات
والحروب والمجاعات وغيرها الكثير، وأن كل ذلك إنما يقع لحكمة إلهية قد نعلمها أو
نجهلها. وأنها تقع إما من أجل ابتلاء البشر، وإما من أجل عقوبات على ذنوب
يرتكبها الناس! أو لأسباب نحن نجهلها. والله العالم بها.
وإذا
كانت هذه الأمور تقع بتدخل مباشر منه من أجل بلاءات أو عقوبات، فما ذنب الأبرياء
الذين يذهبون ضحية الزلازل أو الأعاصير أو الأمراض؟ وما ذنب الأطفال في كل ذلك إن
كان هناك ذنب للكبار؟! وما ذنب الجنين المشوَّه لكي يكون بهذا الحال؟ وفي نفس
الوقت نجد من الناحية الفقهية، أن الفقهاء يفتون بجواز إسقاط الجنين إذا ثبت تشوّهه
بدرجة لا يستطيع معها العيش بشكل طبيعي بين الناس! فهل تكون هذه الفتاوى اعتراضاً
على مشيئة الله لأنه خلق هذا الطفل مشوهاً؟! أم أنه تصحيح لخطأ ارتكبه الله؟!
أنا
أحياناً أضرب بعض الأمثلة في ذلك، وأطلب التأمل فيها. فلو رأى شخص طفلاً في وسط
الشارع، وهناك مركبة على مسافة يمكن باحتمال كبير جداً أن تدهسه، وهو قادر تماماً
على التدخل لإنقاذه وإبعاده عن الطريق. ولكنه لم يفعل، وتعرَّض الطفل للدهس فعلاً
ومات. ألا يشعر هذا الشخص بالتقصير؟ وهل للعقلاء الحق باتهامه بذلك؟ بل قد
يعتبرونه شريكاً بقتله؟
فكيف
يتقبل العقلاء بأن الله قادر على إنقاذ ملايين الأطفال وتخليصهم من الزلازل أو
الأمراض أو مختلف الحوادث ولكنه لم يفعل! ألا يقدح ذلك في عدالته وحاشاه؟!
أو
أن شخصاً ما، يمسك بخرطوم مياه قوية، ويفتحها على بيت بسيط ويسبب في وقوعه على
أهله. ألا يعتبر العقلاء أن هذا الفعل جناية كبيرة، بل هو فعل يعاقَب عليه الفاعل.
وجريمة لا يمكن التغاضي عنها. فكيف يقولون بأن الله هو المسبب لكل الأمطار الغزيرة
التي تسبب دماراً في بعض البيوت الضعيفة، أو ما شابه ذلك من أعاصير وغيرها، تخلِّف
دماراً هائلاً في المساكن والبشر والشجر والحيوانات ومختلف البنى التحتية؟!
هذا
المبنى والارتكاز الذي عليه المتشرعة يُحمِّل اللهَ ما لم يفعله، ويكون سبباً من
حيث لا يشعرون بأن يقدحوا في عدالته. وكل ما استندوا إليه من أدلة قرآنية أو
روائية لا يدل على ما ذهبوا إليها. ولو فرضنا تنزلاً أن ظاهرها يدل على ذلك، فلا
بد من رفع اليد عن هذا الظاهر لأنه يصطدم مع العقل ويسيء إلى العدالة الإلهية. كما
رفعوا اليد عن كثير من ظواهر بعض الآيات كقوله: (يد الله فوق أيديهم)
الفتح: 10، وقوله: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً)
الإسراء: 72 وغيرها كثير.
ليس
بالضرورة أن يتدخل الله في كل واقعة ليعطي فيها حكماً شرعياً. وإنما يمكن أن تكون
للدين أحكام محددة تتعلق بسلوكيات فردية أو ضوابط اجتماعية. لتنظيم بعض الجوانب
الحياتية المهمة. وتبقى مساحة للعقل، واتفاق العقلاء، ونتائج مختلف التجارب
الإنسانية، ورأي كل صاحب اختصاص بما هو داخل في اختصاصه، قادرة على إعطاء الحلول
المناسبة في مختلف الأمور الفردية والاجتماعية. وتعزيز ودعم ما هو ناجح منها،
وتعديل ما يثبت خطأه للوصول إلى نتائج أفضل.
وأما
من الناحية التكوينية، فيمكن القول بأن الله تعالى قد وضع القوانين العامة التي
تضبط إيقاع نشأة الكون ومسيرة تطوره. وهذا ما يفسر العمر الذي بلغه الكون عبر مليارات
السنين حتى وصلت النوبة إلى وجود الأرض وتكوِّنها. أعقب ذلك مليارات أخرى من
السنين حتى جاء الإنسان على سطح هذه الأرض. ولم يتم كل ذلك دفعة واحدة. كما هو
ثابت ومبرهن عليه علمياً. يضاف إلى ذلك أن الإنسان إنما هو فرع متأخر من شجرة
الحياة التي تطورت بالتدريج، وتفسرها نظرية التطور التي أثبتها العلم.
كل
ذلك يمكن أن يتمسك به المؤمنون من دون أن يخل ذلك في إيمانهم. بل على العكس
تماماً، فهو أولى لهم من أن يخدشوا العدالة الإلهية، وينسبون لها أبشع الأفعال من
حيث لا يعلمون.
وسنناقش في الحلقة القادمة ما استندوا عليه من أدلة على تلك القاعدة فانتظرونا.
أسعد الناصري